مقدمة :- يعيش السودان واحدة من أعقد أزماته النقدية والمالية في تاريخه الحديث، حيث أفرزت الحرب واقعاً إقتصادياً هشَّاً، ألقى بظلاله الثقيلة على إستقرار الجنيه السوداني وقيمته. فقد تسببت حالة الإنفلات الأمني وتعطّل مؤسسات الدولة وهروب رؤوس الأموال والإستثمارات خارج البلاد في شلل شبه كامل لعجلة الإنتاج، ما أدى إلى تسارع الإنهيار النقدي وتراجع المؤشرات الإقتصادية الأساسية, في هذا المقال، نسلّط الضوء على الأسباب العميقة التي قادت إلى هذا التدهور، ونفكك المشهد الإقتصادي الراهن، لنرسم ملامح أولية لما قد يحمله المستقبل القريب والمتوسط من تحديات وفرص في ظل هذه العاصفة الإقتصادية. أولًا: انهيار الجنيه السوداني – الواقع بالأرقام 1- سعر الصرف وانهيار القيمة:- • بلغ سعر الدولار الأمريكي في السوق الموازية 3700 جنيه سوداني في أكتوبر 2025، مقارنة بـ 2600 جنيه في البنك المركزي، مما يشير إلى فجوة سعرية تبلغ 1100 جنيه أو 42.3% هذا التراجع يمثل إنهياراً حاداً في قيمة الجنيه، الذي كان قبل إندلاع الحرب في أبريل 2023 عند حدود 600–700 جنيه للدولار. 2- تضخم مفرط (Hyperinflation) • حسب تقرير ذا إيكونوميست (أغسطس 2025)، وصل معدل التضخم في السودان إلى 400 %، مما يُصنّف الإقتصاد السوداني ضمن إقتصادات التضخم المفرط، حيث تفقد العُملة المحلية وظائفها الأساسية (التسعير، الإدخار، التبادل). 3- تآكل الإحتياطي النقدي وتراجع التحويلات • تراجعت تحويلات المغتربين بنسبة 70 % في القنوات الرسمية(البنوك)، وهي من أهم مصادر العملة الأجنبية للبلاد. • تعاني البنوك المحلية من شحٍ حادٍ في العملات الأجنبية، وهو ما يعيق قدرتها على تمويل الواردات أو الإستجابة لإحتياجات السوق. ثانيًا: الأسباب الهيكلية للأزمة :_ 1- الحرب وتفكك الدولة • الحرب أدت إلى تعطيل الإنتاج الزراعي والصناعي في معظم الولايات، ما تسبب في تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 18% في عام واحد (2024–2025)، بحسب تقرير صندوق النقد الدولي. • إنهيار مؤسسات الدولة المالية والضريبية أفقد الدولة قدرتها على تطبيق سياستها المالية والنقدية. 2- ضعف أدوات السياسة النقدية • رغم تبني نظام سعر صرف مرن مدار، لم يتمكن بنك السودان المركزي من التدخل بفعالية نتيجة غياب الإحتياطي الأجنبي الكافي. • تعطلت عمليات السوق المفتوحة والتحكم في الكتلة النقدية، مما أدى إلى طباعة نقود بدون غطاء، وزيادة المعروض النقدي بنسبة تفوق 150% في أقل من عام، وهو ما زاد من الضغوط التضخمية. 3- غياب ثقة السوق • أكثر من80 % من المعاملات اليومية تتم بالدولار أو بنظام المقايضة، ما يعكس فقدان الجنيه لوظيفته النقدية. • انتشار السوق الموازية بشكل كامل، وتحكمها في التسعير، أدى إلى عزل البنك المركزي عن الواقع الإقتصادي الفعلي. ثالثًا: التداعيات الاقتصادية والاجتماعية:_ 1- إنخفاض القوة الشرائية • الأجور بالعملة المحلية لم تواكب التضخم، ما أدى إلى إنخفاض فعلي في دخل الأفراد بنسبة تتجاوز 60% خلال عام. • توسع دائرة الفقر مع انهيار برامج الدعم وانكماش الاقتصاد غير الرسمي. 2- هروب رؤوس الأموال وتوقف الإستثمار • تصاعد مخاطر الإستثمار أدت إلى توقف تدفق رؤوس الأموال الأجنبية والمحلية، وسط غياب الضمانات القانونية والمصرفية. • فرار المستثمرين المحليين إلى أسواق العملات أو الذهب أدى إلى دولرة الاقتصاد بشكل غير رسمي. 3- زيادة الإعتماد على المساعدات الخارجية • مع توقف الصادرات وتدهور الإنتاج، إرتفع إعتماد السودان على المساعدات الإنسانية والغذائية. • غياب خطة إنقاذ دولية حتى نهاية 2025 يجعل هذا الوضع أكثر هشاشة. رابعًا: الخيارات الاقتصادية المتاحة:_ 1- إصدار صكوك مشاركة • طرح صكوك مشاركة تستند إلى أصول طبيعية (ذهب، نفط، غاز) كمصدر بديل للنقد الأجنبي. • يمكن أن تساهم هذه الصكوك في توفير غطاء نقدي للجنيه، ودعم ميزان المدفوعات. • إعادة الهندسة المالية لشهامة وشمم- شهادة مشاركة البنك المركزي بالتركيز علي معدلات عوائد مجزية. 2- إصلاحات نقدية وهيكلية • وضع خطة طارئة لإعادة بناء الجهاز المصرفي. • دمج السوق الموازية مع الرسمية عبر حوافز واقعية. • إستهداف إستقرار تدريجي للعملة، بدل محاولات التثبيت القسري. 3- وقف النزاع وإستعادة الثقة • لا يمكن لأي إصلاح إقتصادي أن ينجح دون وقف الحرب وإعادة بناء مؤسسات الدولة. • إعادة بناء الثقة تبدأ من الاستقرار السياسي وعودة الإنتاج. خاتمة :- يمر الإقتصاد السوداني بمرحلة حرجة تعكس جميع مؤشرات الإنهيار النقدي والمالي، بفعل الحرب وتفكك الدولة وفقدان الأدوات الإقتصادية و إنهيار الجنيه ليس سوى عرض لمرض أعمق يتطلب إصلاحاً شاملًا يبدأ من الاستقرار السياسي، مرورًا بإعادة هيكلة المؤسسات الإقتصادية، وإنتهاءً بتبني حلول تمويل مبتكرة. دون ذلك، فإن الجنيه السوداني مهدد بفقدان قيمته بالكامل، مع دخول البلاد في مرحلة "اقتصاد الحرب" طويل الأمد. المصادر والمراجع: • صندوق النقد الدولي، تقرير سبتمبر 2025. • وحدة التحليل الاقتصادي – ذا إيكونوميست، أغسطس 2025. • العربي الجديد، تقرير اقتصادي – أكتوبر 2025. • بيانات غير رسمية من السوق الموازية والسوق الرسمية في السودان. الكاتب د.محمد شرف الدين الطيب خبير مصرفي المحرر: امين ادم حسن المصدر: مجموعة الباحثين السودانين بالفيس بوك.
أزمة الجنيه الجنيه السوداني في ظل الحرب
تحليل إقتصادي لأسباب الإنهيار وتداعياته